القصة المؤلمة لهذه اليتيمة
لَقد عِشْتُ يَتِيمَة اَلأُم مُنْذ كُنْت فِي الرَّابعة مِن عُمْرِي ، فعرفْتُ طَعْم الفقْد وَوجَع الحرْمان وانْكسار الرُّوح حِين أرى كُلُّ طِفْلَة تُمْسِك بِيد والدتهَا فِي المناسبات الاجْتماعيَّة والْأعْياد أو حِين تَمسُّح أُمٍّ فَوْق رَأْس اِبْنتِهَا بِحنان بَالِغ أو حِين " تَتدلَع الابْنة على والدتهَا يَحضُنها بِكلِّ حُبٍّ لَم يُؤثِّر رحيل والدَتي كثيرًا على وَالدِي فقد تَزوَّج بَعْد وَفاتِها بِشَهر وَاحِد بِامْرَأة لَو كان لِي الخيَار لِمَا صنَّفتْهَا مِن عَالَم البشر ذُقْت على يديْهَا كُلَّ أَلوَان التَّعْذيب اَلتِي قد تتخيَّليهَا فِي ظِلِّ صَمْت وَالدِي ، لَقد كُنْت أَتمَنى الموْتُ كُلَّ سَاعَة حَتَّى صار مِن أَجمَل أحْلامي . . مِن فَرْط قَسوتِها كُنْت آخر فَرْد يَنَام لَيْلا ، وَأوَّل مِن يَنهَض مِن فِراشه صباحًا ، حَتَّى الشَّاي والْفطور نِتْ أَقُوم بِإعْدادهمَا قَبْل ذَهابِي لِلْمدْرسة . لَم تَكُن عَقارِب الأيَّام تَمُر سريعًا بل كُنْت فِي أَحيَان كَثِيرَة أَشُك أنَّ نَفْس اليوْم يَتَكرَّر ثَلَاث مَرَّات مِن طُول ساعاته اَلتِي لَم تَكُن تَمضِي أبدًا كُنْت أَشعُر كأنَّ أَضلعِي يَجثُم فوْقهَا أَلَّف جبل وَجبَل وأنَّ صدى صرْخاتي اَلتِي تَتَلوَّى وجعًا تَرتَد نَحْو حَلقِي فلَا يسْمعهَا سِوَاي . . كُنْت حقًّا أَختَنق . لَكِن ورغْم كُلِّ مَا كُنْت أُعانِيه مِن ظُلْم وَقسْوَة وَيتِم . كان عَزائِي اَلوحِيد الدِّراسة حَيْث تَفوقَت فِيهَا إِلى تِلْك الدَّرَجة اَلتِي أَثرَت فِيهَا غَيرُه أخواتي مِن أَبِي مِمَّا دفع زوْجته لِإخْراجي مِن المدْرسة وَأنَا فِي اَلصَّف الأوَّل ثَانَوِي فقط . اِنْكسَرتْ رُوحيٍّ كمَا يَنكَسِر فِنْجَان قَهوَة إِلى أَشلَاء صَغِيرَة ! اِنْسلَختْ عن نَفسِي حَتَّى لَم أَعُد أَدرِي مِن أنَا أَحسَست أنَّ جزَّارًا سَلْخ جِلْدِي مِثلَما يسْلخون جِلْد الذَّبيحة ورمْي بِه بعيدًا فَأَصبحَت لََا أُعْرفني . . ! اِنكِسار رُوح . . اِنسِلاخ نَفْس . . . ! مَاذَا تَبقَى لِي حَتَّى أَتمَسك بِحياتي البائسة وفكَّرْتُ بِالانْتحار لَكنِّي خِفْتُ مِن غضب اَللَّه . لَم تَتَوقَّف مُحاولات زَوجَة أَبِي فِي إِذْلالي وزرْع الإحْساس فِي دَاخلِي بِأَني لَسْت إِنْسانة . . كأنَّمَا وظيفتهَا فِي الحيَاة مُحَاولَة وَأُدي . وَكَان لَهَا شقيق يُعَانِي مِن تَخلُّف عَقلِي وَعاهَة بَدَنيَّة ولَا يَستطِيع النُّطْق ، لََا أَدرِي كَيْف أَقنَعت وَالدِي والْمأْذون والنَّاس جميعًا بِموافقتي على الارْتباط بِه . . . ؟ ؟ حاولتْ بِشَتى السُّبل الاعْتراض وَلكِن لََا حَيَاة لِمن تُنَادِي . هدَّدتْهَا بِالْهَرب فهدَّدتْني بِالْقَتْل هدَّدتْهَا بِالانْتحار فضحكتْ بِسخْرِية وَهِي تَقُول : أَفتِك مِنْك هذَا اَللَّي أنَا أبيه ، عساهَا أَبرَّك السَّاعات مَتَّى ؟ ولأنِّي كُنْت مُجرَّد فَتَاة يَتِيمَة خَائِفة مُسْتضْعفة لَم يُنْصِت إِليْهَا أحد ولم يَستَمِع لِصَدى صُرَاخهَا أحد . . . فَقْد اِسْتسْلمتْ لِأَنه الخيَار اَلوحِيد اَلمُتاح لِي فِي ذَلِك الوقْتِ . وتمَّ زِفافي إِلَيه فِي مَلْحَمة إِنْسانيَّة بَائِسة كان فِيهَا الزَّوْج لََا يَعلَم حَتَّى عَمَّا يَدُور حَولَه ، عُشُّ الزَّوْجيَّة مُجرَّد غُرفَة فِي سَطْح مَنزلِنا فِي الأصْل كان عُشُّه حَمَّام لَم تَكُن مُعاملتهَا لِشقيقهَا تَتصِف بِالْإنْسانيَّة إِطْلاقًا فقد كَانَت تَضرِبه بِشدَّة وَبلَا أَدنَى رَحمَة . حِين يُبعْثِر الطَّعَام . . أو يَصرُخ بِقوَّة . . أو يُضَايِق إِحْدى بَناتِها المدلَّلات . لَم يَكُن اِهْتمامهَا بِه بَعْد وَفَاة والديْهَا ناتجًا مِن مَحبتِها لَه بل حَتَّى لََا يَتَكلَّم النَّاس عَنهَا بِسوء وَهذَا مَا ظننْته فِي البداية قَبْل أن اِكتشَف الحقيقة اَلتِي ستصْعقكم كمَا صَعقتْنِي فِيمَا بَعْد . سُوء مُعاملتهَا لَه دَفعَنِي لِلْإشْفاق عليْه ، شَعرَت أَننِي وإيَّاه نَتَقاسَم قَسوَة الحيَاة وَظُلم البشر وسوْداويَّة الظُّروف وَبُؤس الأيَّام وَعدَم وُجُود السِّنْد وَالحِضن الدَّافئ والْمشاعر الإنْسانيَّة . بَدأَت فِي تَقبلِه لََا كزوْج بل كطفْل كبير يحْتاجني ويشْعر بِالْأمان بِقرْبي ، فَقُمت بِمحاولات لِتهْذِيب عاداته وطبائعه وشعرتْ بِمشاعر الأمومة نحْوه . . . وَمرَّت خَمْس سَنَوات مِن عُمْرِي وشبابي الضَّائع ومشاعري المسْتنْزفة كَأُنثَى قَبْل أن يَحدُث التَّغْيير الأوَّل فِي حَياتِي ذات مَسَاء . أُصيب زَوجِي بِتشنُّج حادٍّ لَم تَنفَع معه كُلَّ مُحاولات الأطبَّاء فتوفِّي خِلَال أُسبُوع . واخْتلطتْ مَشاعِري فلم أَعُد أَعرِف هل أَحزَن على رَحيلِه أم أَفرَح لِنهاية قِصَّتي معه ؟ وعرفتْ فِيمَا بَعْد سِرَّ تَمسُّك زَوجَة وَالدِي بِبقاء أَخِيهَا عِنْدهَا فَقْد عَلمَت أنَّ زَوجِي ( المتخلِّف عقْليًّا ) قد وَرِث عن والدَيْه مَبْلَغا كبيرًا ، وقد اِسْتماتتْ لِإخْفَاء هَذِه المعْلومة عَنِّي وعن اَلجمِيع ثُمَّ اِسْتماتتْ مِن أَجْل حِرْماني مِن الميراث ونجحتْ فِي ذَلِك . فَأَصبحَت أنَا مِثْل الفاشل اَلذِي عاد " بِخفَّيْ حُنَين " فَقدَت كُلَّ شَيْء . . ! أُصبْتُ بِالاكْتئاب اَلشدِيد وَأنَا أرى حَياتِي مِثْل " مِسبَحة " بِيد أحدهم يَهُزهَا يمينًا وشمالا فتتأرْجح فِي كُلِّ اِتِّجاه ، كَانَت تَرسُم حَياتِي كمَا تُريد . . . ! أَصبَحت أَسوَار السَّوْداويَّة والْفَشل والْحزْن والْإحْباط تَرتَفِع مِن حَولِي يوْمًا بَعْد يَوْم حَتَّى تَكَاد تَخنُقني ، مَرَّت سنة بَائِسة أُخرَى بَعْد وَفَاة زَوجِي ، كَانَت فِيهَا كُلُّ أحْلامي بِإكْمَال دِراسَتي تَتَهاوَى أَمَام نَاظرِي ، أَصبَحت مُجرَّد خَادِمة لُزُوجَة أَبِي وبناتهَا إِلى أنَّ حدث التَّغْيير الرَّئيسيُّ فِي حَياتِي ، إِذ تَقدَّم لِخطْبَتي أَرمَل فِي السِّتِّين مِن عُمْرِه يَفصِل بَينِي وبيْنه 39 عامًا ، وَسبْعَة مِن الأبْناء أصْغرَهم فِي مِثْل عُمْرِي . . . . رَفضَت وصرختْ وَلكِن كمَا ذهب صدى صَوتِي أَدرَاج الرِّيَاح المرَّة السَّابقة هَكذَا حدث فِي المرَّة الثَّانية . أمْواله وعقاراته كَانَت الطَّعْم اَلذِي أَسَال لُعَاب أَبِي وزوْجَته ، وتمَّ زِفافي إِلَيه وَكُنت أَشعُر أَنِّي مَثَّل نَعجَة تُسَاق إِلى المذْبح وَفِي لَيلَة الزِّفَاف ذَهبَت معه إِلى مَنزلِه ودخْلَته لِأَول مَرَّة . . ! لَم يَلفِت نَظرِي فَخامَة مَنزلِه وأثاثه ، ، وَجَمال اللَّوْحات والْإضاءات المذهَّبة ، ولَا السَّجَّاد اَلثمِين والتُّحف الغريبة . . . ! كُنْت أُنْصِت لَحَظتهَا لِضجيج الألم فِي دَاخلِي . . . لِلْأفْكار السَّوْداويَّة اَلتِي تَعتَصِر عَقلِي . . . لِلْغبْن اَلذِي يَضِج بَيْن أَضلعِي . . . لِشريط حَياتِي البائس وَهُو يَمُر بِالْحركة البطيئة أَمَام نَاظرِي وحين أَصبَحت معه وحَّدْنَا فِي اَلغُرفة تَحدَّث مَعِي بِحنان بَالِغ ومشاعر دَافِئة اِفْتقدتْهَا . . حَتَّى أَصبَحت أَشُك فِي كَونِي كائنًا بشريًّا ، فشعرتْ بِدموعي تَتَدافَع سِراعًا . . . . وَجسَدِي يَرتَجِف بِخَوف ، ولأوَّل مَرَّة فِي حَياتِي يحْتضنني أحد بِمَثل هذَا اَلحُب والرِّفْق والصِّدْق ، عُرفَت مِنْه أَنَّه ظلَّ وفيًّا لِزوْجَته طَوَال فَترَة مرضهَا اَلتِي اِمْتدَّتْ لِعَشر سَنَوات . . . أخْبرَتْه بِكلِّ حِكايَتي . . كَانَت دُموعه تَختَلِط بِلحْيَته البيْضاء القصيرة ، ونظرَات الذُّهول تَرتَسِم بِعيْنَيْه وَهُو يَقُول : كَيْف صَبرتِي على كُلِّ هالْأَذى . مَرَّت الأيَّام وَفِي كُلِّ يَوْم كَانَت العلاقة تَزْداد مَتانَة بَينِي وبيْنه حَتَّى أحْببْته مِن كُلٍّ قَلبِي وشكرتْ اَللَّه تَعالَى اَلذِي أَرسَله لِي بَعْد كُلِّ العنَاء والْأَلم اَلذِي مررْتُ بِه فِي حَياتِي . . . وَكَان مِن دُرُوس الحيَاة اَلتِي تعلَّمتْهَا فِي تِلْك اللَّحْظة اَلتِي تَشعُر فِيهَا أنَّ اَلجمِيع تَخلَّى عَنْك . . وَأنَّك تَقبَع فِي دِهْليز مُظْلِم وحيدًا تَلعَق جِراحك بِكثير مِن المرارة . سيمْسح اَللَّه على قَلبِك بِرفْق . وَسينِير لَك طريقًا مُظْلِما .
شكرا لك .. الى اللقاء
ليست هناك تعليقات: